الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • مجزرة" المبعوجة" والعنف الذكوري في رواية "الغربان" للروائي عبد الكريم ناصيف

مجزرة
بسام سفر

نادراً ما وثقت رواية مجزرة مثلما فعلت رواية الغربان، ومثلما فعل العديد من الروائيين الفلسطينيين في مجازر صبرا وشاتيلا في اجتياح الكيان الصهيوني لبيروت في العام 1982، منهم (أحمد أبو مطر، يحيى خلف، ورشاد أبو شاور)، وغيرهم من الكتاب، لكن الروائي والمترجم عبد الكريم ناصيف، ابن قرية "المبعوجة" بريف السلمية، وثقها بخيال روائي واقعي، وهو المولود في العام 1939، والحاصل على إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها من جامعة دمشق، عمل كرئيس تحرير لمجلة المعرفة السورية، ومدير تحرير دائرة التأليف والترجمة سابقاً في وزارة الثقافة، ومن أهم أعماله الروائية "الحلقة المفرغة، المد والجزر، الطريق إلى الشمس (ثلاثية روائية)، اعترافات سمير أميس، وآخرها الغربان"، ومن ترجماته الروائية "أطفال منتصف الليل، الغاب، والإبداع".

تبدأ رواية الغربان باستعراض الربيع ومجيئه في قرية "أم العيون" وجمالية ألوان الربيع من خلال مجموعة الزهور "هذا من شقائق النعمان أحمر، ذاك من البابونج أصفر، الثالث بنفسج، الرابع أبيض، لتتشكل لوحة فسيفسائية بديعة لا يتقن صنعها غير الربيع"، وتستمر الرواية في تمجيد الربيع والطبيعة الخلابة التي تمنح الإنسان متعة بصرية في انسجام مع فرح الألوان وبهجتها، لكن يد الإنسان وأفعاله هي ما تعكر هذا الصفاء الإنساني من خلال أفعاله خاصة التي تقر مصالحه الذاتية بعيداً عن مصالح المحيط الإنساني والمجتمعي الذي يعيش فيه.

العنف الذكوري تجاه المرأة

يظهر العنف الذكوري في الرواية عندما تريد شلة صبايا من الضيعة الذهاب إلى الأرض المحيطة بها، وهناك يقع حاجز يفصل بين الأراضي المحيطة ومكان السكن بالقرية، ويمنع على الحاجز وقائده، الصبايا من الوصول إلى الأرض، ويحصل جدل بينهما إذ يقول قائد الحاجز: نعم.. ألم تسمعن ما قال لكنّ؟ ممنوع يعني ممنوع. بادرهن وقد قطب حاجبيه وزم شفتيه كي يزداد سطوة وهيبة في أعينهن.

-لكن منذ متى.. ولماذا؟

-ألم يخبركن المختار؟ منذ الأمس جاءت الأوامر بذلك، أما لماذا؟ فحرصاً على أمنكن وسلامتكن.

ويستمر الجدل والنقاش بين الصبايا ورئيس الحاجز، ويقدمن "رشوة" له من أجل السماح لهن بعبور الحاجز، فيرد عليهن "فقد أسال لعابه الطعم في الحال.. سلة؟ سأل من جديد ثم تابع وقد اتخذ قراره. بل نقسم الغلة مناصفة.

-مناصفة؟ تابعت فضة وكلها همة لأن تساوم، إذ أحسّت بارتخاء الخصم.. لا.. هذا كثير.

-أبداً.. كل ما تأتين به نقتسمه هنا عند الحاجز. قال، وقد أعجبته الفكرة كل الإعجاب. السلبين غال، الكيلو بخمسمائة ليرة، كذلك الدردار.. الخبيزة".

عندها أدركت الصبايا أن القضية ليست "سلامة أمنهن" إنما شيء آخر. فالمساومة كشفت لهن حقيقية واحدة، بأن المسألة ليست داعش ولا الألغام، بل هي أمر آخر، ربما لا يعرفه إلا تامر الذي بدا أشد إحباطاً وغضباً منهن، وهو يلاحقهن بنظراته.

(تردن البيضة وتقشيرتها.. لا.. أنتن مخطئات.. أنا تامر والكل بيعرفني. هنا.. أنا الآمر الناهي. فكيف تخرجن عن طاعتي؟ قلت لكنّ النصف فلماذا تعترضن؟).

إن هذا النمط "التمردي، المتسلط" على رقاب البشر، سواءً ذكوراً أم إناثاً، يرغب في التحكم بمصير وخط سيرة حياة الناس بسبب التسلط والأوامرية، وهكذا تظهر الشخصية الذكورية مع السلطوية التي تخرج من أعماق هذه الشخصية "تامر"، التي لا ترى سوى ذاتها وتحقق حياتها ووجودها بالأوامر التي تصدرها إلى الناس، وأعتقد أنه وجد ضالته في شلة الصبايا، لكنهن أنصح منه، إذ تركنه يأكله الغل والحسد بسبب الأنانية والذاتوية السلطوية التي تعمل لحيازة ما تستطيع دون أن تبذل الجهد المطلوب للحصول على ما ترغب، وإذ كان هذا النمط الذكوري قد ساد مرحلة من مراحل الصراع في سوريا، فإنه مستمر في هذا الحضور بسبب استمرار وجود الحواجز رغم انتفاء القتال والمعارك في العديد من المناطق السورية، ولم تعد تتحكم هذه المعارك في حياة الناس لذلك ينبغي رفع وإلغاء الحواجز التي تعرقل حياة الناس السوريين في العديد من المناطق.

ويظهر العنف الذكوري أكثر عندما تحب الفتاة خارج عرف العائلة الذي يقيدها في ابن العم، وهذا ما حدث مع مروة التي أحبت "حمدان" وأرادت الزواج به لكن أهلها أصروا على ابن عمها، وبقيت تواعد وتلتقي حمدان.

وبعد أن تشاور مجلس العائلة، قرر تكليف غلام في الثالثة عشرة بقتلها، وعند ذهابها إلى البرية لقطف السلبين والدردار، وبعد ذلك لتلتقي حمدان، جاءها أخوها الصغير من وراء صخرة، فسألته "ماذا تفعل هنا؟ رد عليها "أنطرك"، اقترب منها سألته من جديد "خير.. أمن شيء؟ رد "لا، لا فقط أغسل عارك.. خديها.. وغرس في بطنها خنجراً، حاولت أن تتنفس فملأ فمها الدم، حرك خنجره في أحشائها يمنه ويسرة ثم سحبه، فسقطت مروة مضرجة بدمها بالتراب".

إن العنف الذكوري في حالة الصبية مروة لم يكن صناعة وفعل شاب صغير لغسل عار الحب، وإنما كان عنفاً ذكورياً عائلياً مجتمعياً يعيد تأديب كل نساء القرية ووقف سيل الحرية الذاتية وربط حياة كل نساء القرية بالمجتمع الذكوري الأبوي الذي لا يسمح الحركة باتجاه حرية اختيار الزوج، وليس اختيار نمط حياة المرأة في العالم المعاصر، هذا الواقع ما زال سائداً في العديد من القرى السورية في الريف الشرقي.

والنمط الآخر من العنف يحدث بين الزوج وزوجته في الرواية "ملأ الجو صياحاً وزعيقاً، أصاغا السمع معاً فتبين أن هناك رجلاً دخل الدار يضرب زوجته، صارخاً مهدداً، وهي تزعق وتولول طالبة النجدة".

هذه المرأة تخرج من دار زوجها إلى دار أهلها "في تلك اللحظة ظهرت المرأة وقد شمرت ثيابها عن ساقيها، منطلقة من الباب كالسهم، فيما الزوج في إثرها يهم اللحاق بها وقد أفلتت منه".

هذا العنف التقليدي اليومي الذي تعيشه العديد من نساء القرى والمدن في الأحياء الشعبية دون تدخل يذكر من الأدوات الرسمية التقليدية "قسم الشرطة" إلا إذا ادّعت الزوجة على الزوج، وهذا نادراً ما يحصل بين العائلة السورية من بوابة كيف ستكمل المرأة حياتها مع ذات الزوج الذي ذهبت إلى قسم الشرطة واشتكت عليه.

فالعنف تجاه المرأة في الرواية متعدد وذو مستويات مختلفة، فمنه ما أدى إلى القتل وتدمير حياة الشابة، ودفعِ أخيها للسجن، ومنه الاضطهاد والمنع، تمارسه سلطة تقوم على المنع الواضح الذي تمارسه تجاه المجتمع، لكنه الأوضح تجاه المرأة، والعنف التقليدي في الأسر بين الزوج وزوجته، حتى لو كانت أماً لعشرة أولاد.

المجزرة في الرواية

توضح رواية الغربان للكاتب عبد الكريم ناصيف خيوط التواجد الداعشي في منطقة شرق وشمال السلمية، عبر وجودهم كقوة مسلحة منظمة تنتقل في شرق المنطقة، لكنها تعتمد في خياراتها على البدو الذين يقطنون القرى المستقرة، لذلك وقع اختيارهم على شخصية سرحان في الرواية، هذه الشخصية المأخوذة بالحقد والكراهية لكل أبناء الضيعة "قدم لهم سرحان الشاي، وهو يكاد لا يصدق نفسه (أمير داعش في بيتي؟ شيوخة، رجاله، معي هنا؟ يفكر وهو يتأمل وجوههم، وجوه اللحى الكثة والشوارب الحليقة فيتيه فخاراً".

ويشرح لهم أمير داعش خط الهجوم على القرية حيث "وزع الهجوم على ثلاثة محاور: المحور الجنوبي، الشرقي، الشمالي، هو على رأس الأول، الشيخ أبو العطا على رأس الثاني، وهو هناك في الشرق. الشيخ أبو الهيجا على رأس الثالث، مع كل منهم 20 مقاتلاً، كل منهم أشرس وأشد فتكاً من الآخر".

وكان موعد تنفيذ الخطة بعد منتصف الليل بنصف ساعة، حيث تكون إشارة الانطلاق، قبل الحاجز بمئة متر يتربص قاذف الأربي جي، يسدد جيداً ثم يطلق طلقة يدمر بها الحاجز، وتكون إشارة للمحورين الآخرين بالبدء "المعلم تامر كان قد أفاق مذعوراً.. وهو يصيح:

 -ما هذا؟ ما هذا؟

-أر بي جي. ورصاص.. معلم.. هجوم يا معلم".

ونتيجة لهذا الهجوم المباغت جاءت التعليمات للحاجز بالفرار من القرية، وعند ذلك ركب المعلم تامر وصحبه سيارة البيك أب وغادروا.

وكانت جماعة المحور الشرقي قد بدأت بتنفيذ المجزرة داراً داراً، يرمون الرجل أرضاً، يمسك أحدهم بقمة رأسه ويدوس برجله على صدره، ثم يشرخ بالسكين عنقه، لينبثق الدم نبعاً فواراً يختلط بصياح الأطفال وصرخات النساء، والكل يستغيث طلباً للرحمة، لكن أين الرحمة وقلوب المغيرين صوان؟

وفي المحور الجنوبي لا ينسى سرحان صديقه خليف الذي طلب منه أن يطلق زوجته، لكنه رفض ذلك، فيخاطبه عندما يصل بيته:

-اطلع. ويلك! يا زوج الزانية! (الله أكبر، هذا صوت سرحان يا خليف! رحت بداهية يا خليف!

–ادخلوا.. هاتوه.. هذا القواد ذو القرنين)"، لتقتل زوجته ضحية أولاً، ثم جميع أولاده.

وتكون ردة فعل خليف "لا.. لا.. حرام عليكم.. أنا منكم.. بدوي مثلكم.. حرام عليكم..

-أنت منا يا كلب.. أنت نذل سافل ما تستحق إلا الموت. ثم دون أن يصيح اقتلوه، دوى الرصاص من جديد ليخر خليف راكعاً على ركبتيه، ثم يهوي إلى جانب زوجته وأطفاله، جثة تتبع دماء حارة حمراء".

أما الشيخ أبو الهيجاء، فلا تقف حيطان عالية ولا دار محمية في وجهه، فيصل إلى دار "رمضان وهاني" ويحاولا الهرب "قافزاً من المصطبة الأمامية إلى الفناء الواسع. الحائط الشمالي على بعد خمسين ذراعاً، إن وصلاه خرجا من الباب الآخر، وربما خطيا بالنجاة. عشر خطوات، عشرون، لا يرى أحدهما أمامه شيئاً. كلهما أمل أن يصلا إلى الباب الآخر. لكن من الرصاص انهمر عليهما فجأة".

إن رواية الغربان بخطوطها الاجتماعية التي تضم "اضطهاد المرأة، والداعشية، والأصولية المتزمتة، والحواجز ورجالها"، تستحق القراءة والكتابة عنها لتوضع ما حصل في سوريا منذ العام 2011، وحتى آخر كلمة في الرواية.
 

ليفانت - بسام سفر          

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!